“احصدوهم”.. كلمة سر ضابط إسرائيلي لجنوده بقتل أهل كفر قاسم قبل 66 عاما


179
“احصدوهم”.. كلمة سر ضابط إسرائيلي لجنوده بقتل أهل كفر قاسم قبل 66 عاما

لم تكن “مجزرة كفر قاسم” عام 1956، إلا إحدى المذابح الكثيرة التي نفذها الاحتلال الإسرائيلي في فسلطين على مدار سنوات، غير أنها اكتسبت بعدا خاصا لتزامنها مع واقعة العدوان الثلاثي على مصر

حلت الجمعة ، يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 2022، الذكرى الـ66 لمجزرة كفر قاسم بفلسطين التي ارتكبتها قوات “حرس الحدود” الإسرائيلية، وأسفرت عن استشهاد 51 شخصا من سكان البلدة، بينهم أطفال ونساء ومسنون.

لم تكن “مجزرة كفر قاسم” عام 1956، إلا إحدى المذابح الكثيرة التي نفذها الاحتلال الإسرائيلي في فسلطين على مدار سنوات، غير أنها اكتسبت بُعدا خاصا لتزامنها مع واقعة العدوان الثلاثي على مصر.

حلقة في سلسلة المجازر الإسرائيلية

يقول المتخصصون في التاريخ الفلسطيني إن مجزرة كفر قاسم نفذت ضمن خطة تهدف إلى ترحيل فلسطينيي منطقة “المثلث الحدودي” (بين فلسطين 1948 والضفة الغربية التي كانت آنذاك جزءا من الأردن) التي تقع فيها بلدة كفر قاسم، بواسطة ترهيب سكانها على غرار مذبحة دير ياسين ومجازر أخرى.

ويؤكدون أن إسرائيل -التي لم تحتمل العدد الكبير لسكان هذه المنطقة من العرب- قتلت بدم بارد خلال 1949-1956 من الفلسطينيين 3 آلاف معظمهم ممن حاولوا العودة بعد تهجيرهم إلى بلدان الجوار، وقد تولت تنفيذ هذه المجازر وحدة خاصة بقيادة أرئيل شارون عُرفت باسم “101”.


وفي أجواء القتل هذه وهيمنة عقلية المجازر في إسرائيل جاءت مذبحة كفر قاسم التي نفذت إسرائيل قبيلها 3 مجازر، الأولى يوم 11 سبتمبر/أيلول 1956 حيث قتلت 20 جنديا أردنيا في هجوم على معسكرهم، ثم قتلت 39 فلسطينيا بقرية حوسان في قضاء بيت لحم، و88 آخرين بقلقيلية في الشهر نفسه.

ورغم أن هذه المجازر -ونظيراتها مما سبقها أو لحقها- تقارب في بشاعتها مجزرة كفر قاسم أو تفوقها أثرا، فإن السياق السياسي الذي حدثت فيه الأخيرة أعطاها بعدا أكبر، وذلك لتزامنها مع أول أيام العدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر، بعد أن أعلن الرئيس المصري جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس.

استغلت قوات الاحتلال الإسرائيلي المسماة “حرس الحدود” انشغال العالم بحرب السويس لتنفيذ هذه المجزرة البشعة، وعند تنفيذها طوّقت القوات الإسرائيلية البلدة من جهات ثلاث بينما أبقت الجهة الشرقية نحو الضفة الغربية مفتوحة، مما يعكس عزم الاحتلال على تهجير سكانها.
حظر التجول وإطلاق النيران بدم بارد

بدأت المجزرة عندما أعطت قيادة جيش الاحتلال الإسرائيلي أمرًا يقضي بفرض حظر التجول على القرى العربية في “المثلث الحدودي” الذي يمتد من أم الفحم شمالا إلى كفر قاسم جنوبا، بدءا من الخامسة مساء يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 1956 وحتى السادسة من صباح اليوم التالي.
iframe

وكان القرار حازما إذ أرفِق بقرار أمني يخوّل الجنود إطلاق النار وقتل كل من يتجول بعد سريان الحظر -وليس اعتقاله- حتى ولو كان خارج بيته لحظة إعلان منع التجول، لأن قيادة الجيش كانت تقول “إنها لا تريد التعامل مع السكان بالعواطف”.

وُزّعت قوات من جيش الاحتلال على القرى الفلسطينية في المثلث (من بينها كفر قاسم، وكفر برا، والطيرة، وجلجولية، والطيبة، وقلنسوة)، وكان يقودها آنذاك الرائد شموئيل ملينكي الذي يتلقى الأوامر مباشرة من قائد كتيبة الجيش الموجودة على الحدود وهو المقدم يسخار شدمي.

توجهت مجموعة من الجنود إلى بلدة كفر قاسم وقُسمت إلى 4 فرق بحيث بقيت إحداها عند المدخل الغربي للبلدة، وأبلغ قائدُها الضابطُ يهودا زشنسكي “مختارَ” البلدة في ذلك الوقت وديع أحمد صرصور بقرار منع التجول وطلب منه إبلاغ السكان بالتزامه ابتداء من الساعة الخامسة.

أخبر صرصور الضابط زشنسكي بأن هناك 400 شخص يعملون خارج القرية ولم يعودوا بعد، فأعطاه وعدًا بأن هؤلاء سيمرون بسلام لدى عودتهم ولن يتعرض لهم أحد بسوء.

لكن مساء ذلك اليوم شكّل مرحلة مفصلية في تاريخ كفر قاسم والشعب الفلسطيني عامة، ففي تمام الخامسة مساء دوّى صوت رصاص كثيف داخل البلدة فصمّ آذان معظم سكانها، إثر إطلاق الجنود النار على مجموعة من الأهالي كانوا عائدين من حقول زراعتهم في المساء إلى بلدتهم، فقتلوا منهم 49 شخصا وأصابوا العشرات بجروح بالغة، بذريعة خرق منع تجول لم يعلموا بإعلانه المفاجئ.

نصب بكفر قاسم يحوي أسماء شهداء مجزرتها التي سقط فيها رجال مسنون وأطفال ونساء (الجزيرة)

نصب بكفر قاسم يحوي أسماء شهداء المجزرة التي سقط فيها رجال مسنون وأطفال ونساء (الجزيرة)

كان من بين قتلى مجزرة كفر قاسم مسنون و23 طفلا تتراوح أعمارهم بين 8-17 عاما، و13 امرأة، ولم يكن عدد سكان كفر قاسم آنذاك يتجاوز ألفي نسمة. وقد سقط عند المدخل الغربي للبلدة وحده 43 شهيدا.

ارتبطت المجزرة بأسماء عدد من العسكريين الإسرائيليين أمثال الضابط يسخار شدمي الذي استدعى شموئيل ملينكي وأبلغه بقرار تكليفه مهمة حراسة الحدود وفرض منع التجول في قرى من بينها كفر قاسم، ثم أعطى التعليمات بارتكاب المجزرة.

وقد حاولت الحكومة الإسرائيلية برئاسة ديفيد بن غوريون إخفاء حقيقة مذبحة كفر قاسم، إذ نُشر أول خبر عنها في الصحف بعد أسبوع من وقوعها أي يوم 6 نوفمبر/تشرين الثاني، أما تفاصيلها فمنعت الحكومة وصولها إلى الرأي العام حتى يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 1956.

لكن النائبَين الشيوعيَين توفيق طوبي وماير فلنر تمكنا من كشف ملابسات الحادث بعد تسللهما إلى البلدة لاستقصاء الحقائق بشكل مباشر من الشهود والمصابين، وإعداد وثائق ليتم طرحها داخل الكنيست الإسرائيلي، وإرسال وثائق خاصة بالواقعة إلى وسائل الإعلام والسفارات الأجنبية وكافة أعضاء الكنيست (البرلمان).

واضطرت جهودُهما الحكومة إلى تشكيل لجنة لتقصي الحقائق والبدء في إجراء تحقيق أسفر عن محاكمة من اعتبرتهم الحكومة الإسرائيلية مسؤولين مباشرين عن المجزرة، فأجريت محاكمة صورية لهم حُكم فيها على الضابط شموئيل ملينكي بالسجن 17 عاما، وعلى جبرائيل دهان وشالوم عوفر بالسجن 15 عاما، وعلى الجنود الآخرين بالسجن لمدة 8 سنوات.


قرش واحد عقوبة القاتل

نصب بكفر قاسم يحوي أسماء شهداء مجزرتها التي سقط فيها رجال مسنون وأطفال ونساء (الجزيرة)

أما قائد حرس الحدود المقدم شدمي -الذي أعطى الأوامر بالقتل- فقد تمت تبرئته من ارتكاب الجريمة وغُرّم بدفع قرش واحد، وقد قال -في حديث لصحيفة هآرتس الإسرائيلية- إنه نفذ “أوامر عليا” حين أمر جنوده بقتل المدنيين قائلا: “احصدوهم”.

ثم غُيّرت الأحكام الصادرة بحق مرتكبي الجريمة، حيث خُففت بعد الاستئناف لتصبح 14 عاما بحق ملينكي، و10 أعوام لدهان، و9 أعوام لعوفر. ثم خُفضت مرة أخرى باتجاه إلغائها نهائيا، إذ تدخل رئيس الدولة وخفض الأحكام إلى 5 أعوام لكل من ملينكي وعوفر ودهان. وأطلِق سراح آخرهم مطلع عام 1960.

رغم مرور عشرات السنين على مجزرة كفر قاسم فإن البلدة -وكذلك مدن وقرى الداخل الفلسطيني عامة- ما زالت تشهد سنويا بالتزامن مع ذكرى المجزرة فعاليات واسعة إحياءً لها، تبدأ عادة بالخروج في مسيرة شعبية انطلاقا من مكان النصب التذكاري الذي أقيم في مكان حدوثها والمسمى “الفلماية”، وتنتهي بزيارة مقبرة الشهداء لقراءة الفاتحة على أرواحهم.
إحياء الذكرى.. “بانوراما الشهداء”

وينظم الفلسطينيون سنويا في الذكرى مهرجانات سياسية وفنية وفعاليات تثقيفية تعرف بها.

ـ عام 1974: أبدع المخرج اللبناني برهان علوية في إيصال الكثير من تفاصيل المجزرة إلى الأجيال الجديدة من خلال فيلمه “كفر قاسم” الذي سلط الضوء على مُعاناة أهالي كفر قاسم والداخل الفلسطيني في مرحلة الحكم العسكري التي استمرت لأكثر من 18 عاما.

ـ عام 1976: وثق الأديب الفلسطيني إميل حبيبي المجزرة في كتابه “كفر قاسم المجزرة السياسية”.

ـ عام 2006: أنشئ في البلدة متحف للتعريف بشهداء الواقعة.

ـ عام 2007: بضغط من مساعي الأحزاب العربية في الكنيست الإسرائيلي لدفع الحكومة الإسرائيلية للاعتراف بمسؤوليتها الأولى، قدّم الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز -خلال زيارته لكفر قاسم- اعتذارا عن المجزرة.

ـ عام 2014: شارك خليفته الرئيس رؤوفين ريفلين في مراسم إحياء ذكرى ضحاياها، فكان بذلك أول رئيس إسرائيلي يشارك في مراسمها.

الذكرى الـ65 للمجزرة البشعة التي ارتكبتها إسرائيل في بلدة كفر قاسم بفلسطين عام 1956 (الجزيرة)

وقد وصف ريفلين ما حدث بـ”الجريمة النكراء” التي تجب معالجة تداعياتها. إلا أنه لم يعتذر عنها معتبرا أن اعتذار سلفه بيريز “يكفي”. وقال “جئت هنا اليوم كأحد أبناء الشعب اليهودي وكرئيس لدولة إسرائيل للوقوف أمام عائلات الضحايا والمصابين للشعور بألم الذكرى معكم”.
iframe

وأضاف ريفلين أن “القتل الخسيس في قريتكم كفر قاسم يعد فصلا استثنائيا وأسود في تاريخ العلاقات بين العرب واليهود الذين يعيشون هنا”. واعتبر أن “إسرائيل اعترفت بالجريمة التي ارتكبت هنا عن حق وعدل، واعتذرت عنها.. أنا أيضا أكرر ذلك هنا اليوم وأقول: لقد ارتكبت هنا جريمة  قاسية”.

ورغم ذلك فإن أهالي بلدة كفر قاسم ما زالوا يريدون اعتذارا أقوى مصحوبا بتحمل الحكومة للمسؤولية الأولى عما وقع في بلدتهم ولذويهم.

ـ عام 2016: أنجزت اللجنة الشعبية لإحياء الذكرى الـ60 للمجزرة مشروعا لتوثيق نوعي يحاكي أحداث المجزرة، وقد سُمي “بانوراما الشهداء” وشارك في تنفيذه مختصون ومهندسون وخبراء.

كما تم إطلاق صفحة خاصة على شبكات التواصل الاجتماعي تحت اسم “الذكرى الـ60 لمجزرة كفر قاسم- الصفحة الرسمية”، تخليدًا للشهداء ونشرا للمعلومات الدقيقة بشأن المجزرة وتفاصيلها.

ـ فبراير/شباط 2017: بعد أكثر من 6 عقود على وقوعها، أحيت الفنانة الفلسطينية سامية حلبي الفاجعة في معرض “رسومات توثيقية” في متحف جامعة بيرزيت بالضفة الغربية.

ـ ضم المعرض الذي استمر 3 أشهر نحو 16 لوحة فنية بعضها رسمت بالفحم وأخرى بأقلام الشمع، ووثقت اللحظات الأخيرة قبل المذبحة، إذ ركزت الفنانة على ملامح الشهداء وخطواتهم نحو قاتلهم قبل أن يطلق الرصاص عليهم، كما في لوحة عمال المحجَر الأربعة.


تعليق واحد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *