- موسكو فاجأت كثيرين بالإعراب في مجلس الأمن عن تفهمها لأهمية “سد النهضة” لإثيوبيا والاكتفاء بحديث باهت عن “مشاغل” مصر والسودان
- التحول الروسي يثير انتقادات غير رسمية في القاهرة ووزير الخارجية المصري يزور المفوضية الأوروبية وحلف “الناتو” غريمي موسكو
- عاطف معتمد (أكاديمي): الروس تأكدوا أن علاقات مصر مع أوروبا وواشنطن أقوى بكثير.. وإثيوبيا تمثل لروسيا أرضا بكرا يصلح فيها الاستثمار والحضور الجيوسياسي
- خيري عمر (أكاديمي): روسيا تستغل فراغ الجفاء الأمريكي الإثيوبي بسبب حرب إقليم “تغيراي” وتبحث عن موضع نفوذ يشمل وجود خبراء روس وبناء قاعدة عسكرية في البلاد
كشفت كلمة روسيا، خلال جلسة مجلس الأمن الدولي حول “سد النهضة” الإثيوبي، عن “تحول مفاجئ” هو أقرب إلى تأييد أديس أبابا، وأشبه بـ”عرقلة غير متوقعة” لجهود مصر والسودان في نزاع متصاعد.
فبينما شددت روسيا في أكثر من مناسبة، على ضرورة ألا يلحق “سد النهضة” الأذى بجيران إثيوبيا، فاجأت موسكو، خلال الجلسة الخميس، الكثيرين بـ”اعترافها تماما بأهمية السد لأديس أبابا”، وبحديث باهت عن “مشاغل” مصر والسودان.
ولم تقدم موسكو تبريرا لتحول موقفها، لكن الرد جاء سريعًا من القاهرة، عبر حملة انتقادات وتهديدات إعلامية وسياسة من موالين للنظام المصري أزعجهم موقف الروس، فضلا عن زيارة رسمية إلى المفوضية الأوروبية وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، غريمي روسيا.
بعدها ازدادت حدة التبرم غير الرسمي في مصر، تزامنا مع إعلان أديس أبابا، الإثنين، توقيع اتفاق تعاون عسكري مع موسكو، في وقت كانت تتصاعد فيه مخاوف من احتمال لجوء القاهرة والخرطوم إلى “خيار آخر”، مع تعثر المفاوضات حول “سد النهضة”.
هذا التحول الروسي أرجعه معنيون بالشؤون الإفريقية والدولية، بينهم اثنان تحدثا للأناضول، إلى مصالح لموسكو تتشكل في إثيوبيا، ومحاولتها اقتسام النفوذ مع دول أخرى، في ظل تنافس دولي على التواجد في منطقة القرن الإفريقي (شرقي القارة).
ورأى أحد الخبراء أن موقف “الدب الروسي” ليس متعلقا بمصر، بقدر ما هو بحث عن مصالح روسية، ورسالة إلى اللاعبين الدوليين في الساحة الإفريقية بأن موسكو قادمة عبر بوابة إثيوبيا.
هذا الخبير رجح أيضا تعاظم التواجد الروسي في إثيوبيا وبرودة نسبية في العلاقات المصرية الروسية، وبحث القاهرة عن شركاء دوليين آخرين، في إطار توازن العلاقات، من دون الإضرار بمصالحها، لا سيما في قضايا إقليمية مع موسكو، أو بحصتها المائية في أزمة السد.
وعادة ما تصف القاهرة علاقاتها مع موسكو بأنها “متميزة”، ولم تتأثر بإسقاط طائرة روسية في شبه جزيرة سيناء (شمال شرق) عام 2015، وتشهد تعاونا اقتصاديا وسياحيا مع مصر ليس له نظير مع إثيوبيا.
بينما، في 28 يونيو/حزيران الماضي، وصفت الخارجية الروسية في بيان، العلاقات مع مصر بأنها “تتميز تقليديا بطابع ودي”.
** تحول روسي
في 24 أغسطس/آب 2020، نقلت شبكة “روسيا اليوم” الإخبارية تصريحات لسفير موسكو لدى القاهرة، غيورغي بوريسينكو، قال فيها إن “روسيا تحاول إقناع إثيوبيا بتسوية النزاع بشأن سد النهضة سلميا من دون إلحاق الأذى بجيرانها”.
وبعد نحو عام، وخلال جلسة مجلس الأمن الخميس، لم يكن لعبارة “تجنب إلحاق الأذى بجيران إثيوبيا” وجودا في موقف روسيا.
وقال المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة ڤاسيلي نيبينزيا: “نعترف تماما بالأهمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمشروع السد لإثيوبيا (..) في الوقت نفسه، نشير إلى مشاغل عبرت عنها مصر والسودان”.
وتتبادل مصر والسودان مع إثيوبيا اتهامات بالمسؤولية عن تعثر المفاوضات، التي يرعاها الاتحاد الإفريقي منذ أشهر، ضمن مسار تفاوضي بدأ قبل نحو 10 سنوات.
ومتحدثا بلغة غير معتادة للقاهرة، أضاف نيبينزيا أن “التهديد باستخدام القوة أمر يجب منعه (..) ونحن على ثقة بأن الاتفاقات حول التنمية الاقتصادية والاجتماعية يجب ألا تؤدي إلى تهديد السلم والأمن (أساس تقديم مصر والسودان لطلب عقد الجلسة)”.
وقال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في 30 مارس/ آذار الماضي، إن “مياه النيل خط أحمر”، متوعدا بأن “أي مساس بمياه مصر، سيكون له رد فعل يهدد استقرار المنطقة بالكامل”.
** غضب مصري
على الفور، تنامي انتقاد مصري غير رسمي لموسكو، وقالت صحيفة “المصري اليوم” (خاصة)، في تقرير السبت، إن موقف روسيا “اعتبره كثير من المصريين تبنيا للرواية الإثيوبية، وانحيازًا فجًا ضد مصالح مصيرية لمصر، وانتقادات بالتلميح لتصريحات (قبل أشهر) للرئيس السيسي”.
وفي مقال بعنوان “الذين خذلونا في مجلس الأمن”، في صحيفة “الشروق” المصرية (خاصة)، كتب رئيس تحريرها، البرلماني عماد الدين حسين، إن “الموقف الروسي كان مفاجئا، حينما رفض التهديد باستخدام القوة مع أنه باليوم ذاته أمرت موسكو باستئناف الطيران المباشر للمقاصد السياحية بمصر (متوقف منذ إسقاط الطائرة بسيناء) لدرجة أنه اعتبر محاولة لترضية مصر بالسياحة وإثيوبيا بالسد”.
وفي تدوينات عقب جلسة السد، وصف السفير المصري السابق محمد مرسي، عبر صفحته بـ”فيسبوك” الموقف الروسي بـ”العدائي”.
ودعا مرسي إلى تجميد التعاون مع موسكو في إقامة محطة الضبعة النووية (غرب)، والتلويح بإعادة النظر في أوجه تعاون ثنائية وملفات إقليمية أخرى.
** رد رسمي
وفي اليوم التالي، كانت بوصلة مصر الرسمية تتجه، الأحد، صوب المفوضية الأوروبية، وحلف “الناتو”، مع العلم أن علاقاتهما متدهورة مع روسيا.
ويجري وزير خارجية مصر سامح شكري، لقاءات ركز أغلبها على أزمة السد، حيث بحث مع رئيس الحلف ينس ستولتنبرغ، “التطورات الإقليمية ذات التأثير على أمن ومصالح مصر”، وفق وزارة الخارجية المصرية.
وفي 22 مارس/آذار الماضي، قال نائب وزير الخارجية الروسي ألكسندر غروشكو، إن العلاقات مع “الناتو” في أدنى مستوياتها، والاتصالات متوقفة، والعقوبات الأوروبية (بسبب أوكرانيا) ضد موسكو تضع علامة استفهام على أي تعاون مستقبلي، بحسب وسائل إعلام روسية.
وبوضوح أكثر، تحركت موسكو، الإثنين، صوب دعم موقف إثيوبيا، عبر توقيع اتفاق للتعاون التقني العسكري معها، بهدف تحديث قدرة الجيش بالمعرفة والمهارات والتكنولوجيا، وفق وسائل إعلام إثيوبية وروسية.
وقالت وزيرة الدفاع الإثيوبية مارتا لويجي، إن موسكو تؤيد بلادها في ملفي الانتخابات (أُجريت قبل أيام)، والسد، وقدمت دعما لعمليات الجيش الإثيوبي في إقليم تيغراي، الذي يشهد صراعا مسلحا منذ أشهر، وسط انتقادات أممية وأمريكية لأديس أبابا.
ومنذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، يقاتل الجيش الإثيوبي قوات “الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي” (الحزب المحلي الحاكم سابقا)، وسط اتهامات لأديس أبابا بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في الإقليم الحدودي مع السودان.
فيما وصف نائب مدير التعاون العسكري الروسي، بونتشوك أناتولي، علاقات موسكو وأديس أبابا بأنها “طويلة الأمد”.
وغداة توقيع الاتفاق العسكري، عاد الكاتب والبرلماني المصري عماد الدين حسين، للقول في تصريحات إعلامية الإثنين، إن “روسيا رغم أنها صديقة وعلاقتنا بها تاريخية لكن موقفها (بمجلس الأمن) كان غريبا وصادما، وبعد معرفة الاتفاقية التي جرت مع إثيوبيا جعلت الأمور أكثر وضوحا وسوءا”.
** دوافع روسيا
وفق أستاذ الجغرافيا في جامعة القاهرة، عاطف معتمد، فإن روسيا تبحث في إثيوبيا عن حليف، بخلاف مصر، التي من غير المنتظر أن تكون كذلك لموسكو.
وقال معتمد، عبر صفحته بفيسبوك الجمعة: “موسكو كانت قبلة لمصر تقريبا من 2014 – 2016 وكادت تستثمر هذا الموقف في تقديم مقترحات بوجود روسي استراتيجي فعلي (كقاعدة عسكرية) وليس سياحي، ولم يستمر الأمر مع حدوث انفراجة مع الغرب وعودة الاتصالات المصرية الأمريكية”.
وأضاف: “تأكد الروس أن علاقات مصر أوروبيا ومع واشنطن أقوى بكثير من نظيرتها الروسية وأن انتظار تغيرها أمرا بالغ الصعوبة (..) أما إثيوبيا فتمثل لروسيا أرضا بكرا يصلح فيها الاستثمار والحضور الجيوسياسي”.
وبجانب بحثها عن حليف، فإن مصالح موسكو ورغبتها باقتسام النفوذ في إفريقيا الغنية بالموارد الطبيعية والأسواق الاستهلاكية، هما سببان آخران يطرحهما خيري عمر، وهو أكاديمي مصري متخصص في الشؤون الإفريقية والدولية.
وقال عمر: “هناك تحول واضح لروسيا نحو مصالحها في إثيوبيا، تستعيد بها ماضيها الذي امتد من 1975 إلى 1991، عبر دعم الحكم الشيوعي في أديس أبابا، وقد وضح هذا من لهجة مندوبها العدائية في جلسة مجلس الأمن”.
وتابع: “كان مشهد الجلسة أشبه بمباراة دولية، ليست مصر طرفا فيها، لمن يرضي إثيوبيا أكثر، باعتبار أنها بوابة للتواجد في إفريقيا، التي باتت مسرحا رخوا للتنافس الدولي”.
وأردف: “روسيا سعت إلى استغلال فراغ الجفاء الأمريكي الإثيوبي، على خلفية إقليم تيغراي، وعملت على جذب حليف جديد مغاير للقاهرة ذات العلاقات الخارجية المتنوعة”.
ورأى أن موسكو وبتوقيعها على اتفاق تعاون عسكري مع أديس أبابا، الإثنين، تكشف عن أنها تبحث عن موضع نفوذ يشمل وجود خبراء روس وبناء قاعدة عسكرية في إثيوبيا.
وفي 15 أكتوبر/تشرين أول 2016، أكد السيسي أنه “لا قواعد عسكرية لروسيا أو غيرها في مصر، ولا وجود لهذا سابقا أو حاليا أو مستقبلا”، ردا على تقارير صحفية روسية تحدثت عن مفاوضات لاستئجار موسكو قاعدة بمصر.
وبعد الاتفاق العسكري الإثيوبي الروسي، “ستتعاظم المصالح الروسية مع حليفها الإثيوبي الجديد، وستبدو مواقف روسيا في ملف السد، والتي تزعم أنها حيادية، أقرب إلى أديس أبابا من القاهرة”، وفق عمر.
وحول التأثير المحتمل لذلك على مصر، قال عمر إن “علاقات مصر وروسيا لا تُصنف تحالفا استراتيجيا، مع إدراك القاهرة مبكرا أهمية تنويع العلاقات الخارجية ومستوى التسليح”.
وتابع أن “انزعاج مصر من موقف موسكو (في مجلس الأمن) تُرجم بذهاب شكري إلى بروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي والناتو)، وليس لروسيا”.
وتوقع أن تتجه العلاقات المصرية الروسية “ربما إلى حالة برود نسبي لا يمس الملفات الأساسية، مع تسارع روسي نحو إثيوبيا، وهذا لن يعطل مسار القاهرة في تحييد السد حال تضررها”.
وتصُر إثيوبيا على بدء ملء ثانٍ للسد بالمياه في يوليو/ تموز الجاري وأغسطس/ آب المقبل، حتى لو لم تتوصل إلى اتفاق بشأن الملء والتشغيل.
بينما تتمسك مصر والسودان بالتوصل إلى اتفاق ثلاثي أولا، للحفاظ على سلامة منشآتهما المائية، ولضمان استمرار تدفق حصتهما السنوية من مياه نهر النيل.
** بوابة إفريقيا
متفقا مع عمر، قال الأكاديمي مصطفى يوسف، مدير المركز الدولي للدراسات التنموية والاستراتيجية (مقر في كندا)، للأناضول، إن “روسيا تود أن يكون لها قدم في إفريقيا، وإثيوبيا هي البوابة لذلك، في ظل أن آبي أحمد (رئيس الوزراء الإثيوبي) له صلات قوية مع الأمريكان والإسرائيليين”.
وأردف يوسف: “هناك تواجد دولي كبير في إفريقيا، لاسيما من الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل وفرنسا، وبالتالي مفهوم جدا هذا السعي الروسي إلى التواجد”.
لكنه استبعد أن تبتعد روسيا عن مصر في ملف “سد النهضة”، مرجحًا أنها “ستقف في المنتصف”.
تعليق واحد